البرلمان القبطي

روبير الفارس.. بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباط

بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباط

    روبير الفارس

لماذا نكرم فقط الشهداء وننسى الذين قاوموا الرومان ودفعوا الجزية للعرب فانجبونا وأورثونا جوهرة المسيحية؟

بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباط   يحتاج الخطاب الديني القبطي المعبر عن ثقافة الاضطهاد في العقل الجمعي للأقباط إلى وقفة حيث هناك ميراث كبير وضخم من الروحانية يلجأ إليه الأقباط عند الأزمات والجرائم التي تهز وجدانهم كوسيلة للعلاج الثقافي والنفسي والروحي.

وهذا الميراث في حاجة إلى تنقية وتحديث وتطوير فعلي ليتناسب مع أمور عديدة تغيرت مع السنين. خاصة إن هذا الميراث يعود إلى ما يسمى بعصر الاستشهاد وأغلب كتبته من الرهبان الذين يحلو لهم إطلاق وصف الموتى عن العالم على أنفسهم. الأمر الذي يتنافى مع معطيات العصر وفكر المواطنة. 

    ويتضمن الميراث الروحي عدة نقاط سوف أناقشها فيما يلي:

    أولاً: كنيسة الشهداء: 
يطلق على الكنيسة القبطية لقب كنيسة الشهداء وذلك لما قدمته من شهداء يقدرون بالآلاف على مدار تاريخها الممتد. فيما يعرف بعصر الاستشهاد وهو العصر الذي بدأ تاريخيًا عندما أصدر الإمبراطور الروماني دقلديانوس مع زميله غاليروس 
منشورًا بهدم كل الكنائِس المسيحية وإحراق الكتب الكنسية، واعتبار المسيحيين خارجين عن القانون . وفي 25 نوڤمبر عام 311 م. وبأمر الإمبراطور مكسيميان الذي كان يملُك على الشرق استُشهِد البابا بطرس البطريرك السابِع عشر في خلافِة مارمرقُس الرسول. ويقول يوسابيوس المؤرِخ الكنسي، أنَّ في مصر كان يوجد جمع غفير لا يُحصى من المؤمنين مع زوجاتِهِم وأطفالِهِم ممن عانوا من كل أنواع العذابات والموت من أجل الإيمان. 

بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباط    والكنيسة تتعامل مع اللقب- كنيسة شهداء – كسمة مميزة لا كنتيجة لفعل الاضطهاد وهذه هي المشكلة. فهل الكنائس التي لم تقدم هذا العدد من الشهداء تعد غير مرضية أمام الرب أو تسقط عنها ميزة .

طبعًا لا .

الاضطهاد التاريخي أدى إلى كثرة عدد الشهداء ولكن هذا لا يجعلنا تحت نير أن نقدم المزيد حتى نظل محافظين على اللقب وكأنه سبق لا يجب التخلي عنه.

فالنكوص النفسي للعيش في التاريخ أمر مرضي ويحتاج إلي علاج .

خاصة إن الذين أورثونا المسيحية هم أجددنا الذين قاوموا الاضطهاد والموت أيام الاضطهاد الروماني ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون أيام الاضطهاد العربي والإسلامي وليسوا الذين استشهدوا، فالشجاعة الحقيقية هي مواجهة الحياة بكل مافيها وليس في الترحاب بالموت الذي حول المسيحية في الشرق إلى أقلية وادى إلى اندثارها في مناطق وبلدان كثيرة.

وهنا يجب طرح سؤال: هل كل من مات في حوادث تفجير الكنائس كان مستعدًا للموت لأنه مسيحي؟ فعصر الاستشهاد يذكر أن المسيحي كان يخير بين ترك المسيحية أو الموت وهؤلاء لم يخيروا ولم يسألهم أحدًا. 

    ثانيًا: التبرير 
بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباط   يقوم بعض رجال الدين المسيحي بتحميل نفسية الأقباط ذنب ما جرى من الناحية الروحية من قبيل أن الرب يؤدبنا وذلك لأننا نعيش في تراخي ونهمل حياة الإنجيل ولا نمارس وسائط الخلاص التي هي أسرار الكنيسة وأهمها التوبة والاعتراف والتناول ولذلك تأتي هذه الضربات ليوقظنا الرب من غفلتنا، فنعود ونعيش في حضنه نتسامح ونغفر ونقدم المحبة الحقيقية. 

ويبرر آخرون تلك الجرائم لإهمال المسيحيين اسم المسيح والكرازة بالإنجيل، حيث أنها هي وصيته الأخيرة “اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيِل للخليقة كلها. ” (أنجيل مرقس 16: 15).  


والكرازة اصطلاحًا مسيحيًا يعني المناداة علنًا بالإنجيل للعالم غير المسيحي، فهي ليست المواعظ الدينية لجماعة مغلقة من المبتدئين، لكنها التبشير العلني بعمل الله الفدائي بالمسيح يسوع، فالفكرة الشائعة عن أن الكرازة هي تفسير الكتاب والوعظ، قد حجبت المعنى الأساسي للكلمة. 

    ورجال الدين هؤلاء يتحدثون عن الأقباط ككل على اعتبار أنهم فصيل واحد كلهم في غفلة عن حياتهم الروحية في حين أنهم لايقبلون النقد الذاتي لهم وللكنيسة التي أصبحت مؤسسة خاضعة لأي نظام حاكم يتمتع رجالها بكل النعم الأرضية، فلا تجد أسقفًا فقيرًا ولا رجل دين إلا ويملك السلطان والصولجان هذا من ناحية ومن ناحية أخرى،  فرجال الدين أنفسهم هم المسئولين عن الكرازة ونشر الإنجيل وتجدهم حرصين أشد الحرص على عدم القيام بذلك، فمثلاً في الأعياد المسيحية لاتجد البابا يشرح عقيدة المسيحيين، حتى يرفع عنهم اتهام الكفر ويكتفي بترديد تاملات روحية مطعمة بآيات سلوكية وكأن هناك عقد بينهم وبين النظام أنه لاحديث عن العقيدة  أمام وسائل الإعلام كما يلجأون هنا للخلط بين أمرين أولاً معرفة الله المسبقة لكل شئ ومشيئته التي من المؤكد أنها لاتقبل الشر لابنائه وتعطي للإنسان الحرية في اختيار طريق الحياة الذي يريدة شرا أم خيرًا. فالله يعلم كل شيء فعلاً وهو القدير ولكن هذا لايبرر الجريمة وإلا لا داعي لمعاقبة أي مجرم في أي شر أو جرم يرتكبه. 

    ثالثًا: حُرمة الغضب 
وفي الوقت الذي يقول فيه الإنجيل اغضبوا ولا تخطئوا. لا تغرب الشمس على غيظكم، (رسالة أفسس 4: 26). يعتبرون أن التعبير عن الغضب يتنافي مع المحبة والتسامح المسيحي وهو تسامح يسير في اتجاه واحد ويخضع بعض الآيات لحالة الاضطهاد وكأن هذه الآيات كتبت فقط لمسيحي الشرق الأوسط وليس للمسيحيين في كل العالم. ومن الطريقة المفضلة لبتر الآيات تجد القبطي حافظ ويجيب على الأحداث الموجعة مرددًا أنصاف آيات إنجيلية كالتالي:

“المسيح قال في العالم سيكون لكم ضيق”،

“المسيح قال احمل صليبك واتبعني”

بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباطو”الإنجيل قال: سوف تأتي ساعة كل من يقتلكم يظن أنه بذلك يمجد الله”،

” المسيح قال: من ضربك على خدك الأيمن حول له الآخر “،

حتى يصل إلى” مع المسيح ذاك أفضل جدًا”، ويردد حقنا في السماء تمامًا كما كان يردد الغراب في رواية جورج أورويل المشهورة مزرعة الحيوان ليُصبر الموجعين بالفردوس القادم.

وطبعًا كل هذا التدين شكل جميل ولكنه كما سبق وذكرت مبتور النص ومنزوع السياق. فالمسيحية لاتدعو للخنوع وغياب الكرامة بل ذكر الكتاب المقدس مواقف أنبياء طالبي الانتقام من الظالمين فقال دواد النبي “خاصم يارب مخاصمي  وليلبس خصمائي خجلاً وليتعطفوا بخزيهم كالرداء (مزمور 109) .. والآيات الناقصة التي يرددها البعض كالببغاوات إذا اكتملت قدمت معنى مهمًا ومغاير فمثلاً “المسيح قال لتلاميذه ورسله وهم 12 تلميذًا و70 رسولاً” في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم “، أي إن المسيح غلب بالفعل في الماضي ولا زال غالبًا، فكل الضيق القادم مغلوب بالمسيح وهوه – له المجد – كحي فينا حسب الآية فى (رسالة غلاطية  2 : 20) لا أحيا أنا بل المسيح يحيا فيَّ يجب أن نكون مثله في غلبته وانتصاره لا هاربين ولا منكسرين بل شجعانا في مواجهة الحياة قبل الموت وباقي الآيات الجميلة التي تكرر وتدل على سماحة المسيحية ومثلها العليا تفاسيرها ومعانيها تقف تمامًا ضد لاهوت الانكسار والهروب، فالمسيح كان يحدث تلاميذه عن الآلام والطرد والشر الذين سوف يلاقونها ازدراء التبشير باسمه وهذا هو حمل الصليب الذي نادي به والمسيحية الحقيقية لابد أن يكون شعارها لا صليب بلا قيامة.

بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباطأما المثير والواضح عند الأقباط أنهم يملأون الكنائس في أسبوع الآلام لا يفرحون بفداء المسيح لهم بل يبكون عليه وعلى آلامه! والمذهل أنك تجد الكنائس شبه فارغة ولا يقارن الحاضرون في أسبوع الآلام بالحاضرين وقت احتفالات القيامة الممتدة لـ 50 يومًا لا يشعر فيه الأقباط بلذة البكاء والدموع المنهمرة في أسبوع الآلام؟ وكذلك لا يهتمون بعيد كبير ومهم في المسار الروحي المسيحي وهو عيد حلول الروح القدس على تلاميذ المسيح، حيث نالوا قوة من الأعالي بحلوله عليهم في أورشليم بعد خمسين من قيامة المسيح فقوة وفرح الروح القدس غائبة تمامًا عندهم ويكفي سيطرت النواح الجليل وارتداء الأسود وتبجيل الآلام .

يذكر الآباء أن معنى آية من ضربك على خدك الأيمن فحول له الآخر أي ابحث عن وسيلة السلام المتاحة لا أن تنكس رأسك وتخجل حتى  العبط.

وإذا كانت أنصاف الآيات المستخدمة منزوعة السياق الموجهة للتلاميذ الحواريين والذين استشهدوا جميعًا ماعدا يوحنا الحبيب الذي مات بشكل طبيعي منفيًا في جزيرة بطمس. فهذه الأنصاف تواجهها آيات تحض على الإيجابية والكرامة فمثلاً المسيح قدوتنا العظمى والوحيد الممسوح من الخطايا رفض اللطم أي الضرب على الوجه بلا سبب يقول إنجيل يوحنا: “فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه، أجابه يسوع: “أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائمًا. وفي الخفاء لم أتكلم بشيء . لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم. هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا. “ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفًا، قائلاً: «أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ “أجابه يسوع: “إن كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردي، وإن حسنا فلماذا تضربني ؟ ” (أنجيل يوحنا 18: 19- 23) .

بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباط    لقد كان القانون اليهودي يسمح بضرب من يجدف علي وجهه ولكن يسوع المسيح لأنه لم يجدف اعترض على ضرب الخادم له.

المسيح أيضًا كان ثائرًا قويًا – هذه الصورة لا تقدم أبدًا في الكنيسة القبطية عن المسيح، لقد عرى الواقع اليهودي وفضح طوائف الفريسيين والكتبة ووصفه بالمرائين وأولاد الأفاعي وأكثر من مرة حاولوا رجمه أو إلقائه من فوق الجبل ولكنه لم يخف أو يتراجع.

بل إن المسيح مسك سوطًا وطرد البائعة وقلب موائد الصيارفة رافضًا سيطرة رأس المال على بيت الله وهو أمر لاتحتفل به الكنيسة كعيد من الأعياد السيدية أى الخاصة بالسيد المسيح هذا في الوقت الذي تحتفل فيه بأشياء كثيرة منها ختان المسيح. ومن الآيات التي لا تجد الأقباط يرددونها القول المقدس: “جئت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل”، فهل الأفضل الخنوع للاضطهاد؟ وأيضًا قول المسيح: “لست أسال أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير”، وكذلك يتم تجاهل استخدام بولس الرسول لجنسيته الرومانية ليوقف حكم صدر بجلده وصاحب هذه الجنسية لا يجلد بل إنه رفع شكواه لقيصر. أي إن استخدام القانون والحق في منع الأذى عن النفس أمر طبيعي وحق استخدمه رسول في حجم بولس.

بعد البطرسية مشاكل خطاب وثقافة الاضطهاد عند الأقباطكذلك أن يوحنا المعمدان نبي الحق ظل يفضح هيرودس في كل مكان لأنه تزوج زوجة أخيه  نطق بالحق وجال به حتى لو كان الثمن حياته.

أما الكنيسة القبطية فتتباهى بأنها أم الشهداء، رغم إن كل كنائس العالم قدمت شهداء ورغم إن بقاءنا كأقباط يدل على أن جدودنا القدامى قد استخدموا كل الحيال لتحدي الاضطهادات الرومانية والعربية المختلفة من تخفي وإنشاء كنائس تحت الأرض ودفع جزية ليحافظوا لنا على الحياة التي هي المسيح لنأتي نحن ونعيش في جلباب الشهداء ونمتص روح الآلام والخضوع والانكسار ونتخذهم قدوة، نتمنىأن نصبح مثلهم لننال إكليل الشهادة ونتجاهل كل الأفاعيل التي وفرت لنا الحياة. إن هذه الفجوات الكبيرة في هذا الميراث الروحي يجب الوقوف عندها طويلاً ومساءلتها والنقاش حولها.

Aisha Ahmad

رئيس تحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى