قصة حياة العالم الأزهري المتنصر الشيخ محمد بن محمد بن منصور المتنصر بأسم الشيخ ميخائيل منصور

قصة
حياة العالم الأزهري المتنصر
الشيخ
محمد بن محمد بن منصور
المتنصر بأسم
الشيخ
ميخائيل منصور
المولود بمدينة سوهاج عاصمة مديرية جرجا فى شهر مارس سنة 1871
رقد في الرب الساعة الخامسة من مساء الأربعاء الموافق 29 مايو سنة 1918
بقلم
الشيخ / كامل بن محمد بن منصور
المتنصر / كامل منصور
“فهرست”
* – ديباجة .
* – المقدمة .
* – حياته الإسلامية .
* – الطور الثانى من حياته الإسلامية .
* – بدء بحثه فى المسيحية وإقتناعه بها، وما أدت إليه هذه الحال .
* – بدء حياته المسيحية وسفره إلى رومه لمقابلة البابا ثم رجوعه وإشتراكه فى الكنيسة الإنجيلية .
* – الصعوبات التى قابلها .
* – إيمانه .
* – أخلاقه وصفاته .
* – عمله و بدايته فيه .
* – مرضه وأنتقالة للسماء .
طبع بمطبعة المحيط بالفجالة بمصر نمرة 54 سنة 1929
“ديبــاجـــة”
“لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح “
إن المقياس الحقيقي للحياة ليس التعمير طويلاً في هذه الدنيا وإنما هو تمجيد الله بما يخلده الحي من الأعمال السامية .
وخير ما يبقي خالداً من الأعمال هو التضحية وإنكار الذات في سبيل خدمة الله والإنسان، فإن البطولة الحقيقية لا تتحقق إلا في هذه الناحية من مناحي الحياة .. فإلي خدام الله العلي ومحبي النفوس والعائشين لأجل الآخرين أقدم فذلكة من تاريخ حياة أخ لهم راجياً الصفح عما يجدونه فيها من القصور في الوصول بهم إلي كل ما حواه تاريخ حياته تفصيلياً لاسيما ما ألقاه من المحاضرات وجميع ما كتبه من النظم والنثر فقد كان قليل الحرص علي ما كتب . كذا أطلب الصفح عن التأخير بهذا الكتاب إلي هذا التاريخ الذي ظهر فيه فقد أدت إلي ذلك حوائل كثيرة لا مكان لذكرها اليوم . وإني أسأل الرب أن يحمل هذا الكتاب قراءة علي تمجيد المسيح وأعلاء ذكره في هذه البلاد وغيرها .
الشيخ
كامل بن محمد بن منصور
المتنصر / كامل منصور
شقيق المتنيح
المقـدمـة
بقلم جناب الدكتور صمويل زويمر
إننا نرحب بكتاب جديد في باب تراجم مشاهير الرجال – وقليل ما هو عندنا في اللغة العربية من هذا النوع الذي يحدثنا عن عمل نعمة الله في الحياة البشرية – إن أعظم كتاب في العالم هو كتاب التراجم . تراجم رجال ونساء في قاعة اعلان الله المعلقة فيها صور رجال ونساء . أكرمهم الله بأن كلمهم في قديم الأيام . وكانوا من الذين ساروا مع الله وصارعوا مع الله بالصلاة فحصلوا علي غفران منه وقوة فخدموا عصرهم وجيلهم بنعمة الله المتفاضلة عليهم . أن الكتاب المقدس كتاب تراجم لا نظير له . فالكتبة الأطهار وضعوا لنا رسوماً حقيقة فكانت خطوط رسومهم الدقيقة وألوانها الباهرة مطابقة للحقيقة لأنهم بالإيمان غلبوا وبالنعمة ثبتوا ومعلوم أن يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلي الأبد .
إن إله ابراهيم واسحق ويعقوب هو أيضاً إله موسى ويشوع وصموئيل . وهو الذي أعطى سليمان حكمة وإيليا شجاعة واليشع حنواً وأيوب صبراً . وهو الذي دعا أشعياء وحزقيال وأرميا في العهد القديم واختار يوحنا المعمدان وبطرس وبولس الرسولين في العهد الجديد . ولاشك أنه هو الذي دعا واختار رجال كثيرين من ذلك اليوم الذي فيه وجد أندرواس أخاه بطرس بجانب البحيرة إلي يومنا الحاضر . وفي هذه الدعوة يتضح لنا بجلاء أن الله لا يأخذ بوجوه الأشخاص أو الأمم بل إن نعمته المتفاضلة وحكمته التي لا تستقصي لا تزال تتجلي في جماهير خدامه الأمناء الذين يدعوهم لأعمال عظيمة في كل زمان وكل مكان ، ومن هؤلاء الخدام العظام الذين أكرمهم الله وأغدق عليهم سوابغ نعمته وحكمته نذكر المرحوم الشيخ / ميخائيل منصور .
فهذا إذ عرف حق الله كما هو معلن في كتبه المقدسة ” وجد أولا أخاه كاملا وأتي به إلي يسوع ” فما كان هذا الكتاب الذي وضعه الشيخ / كامل منصور إلا إعترافاً بالفضل من أخ لاخيه . ولو أن قد مضي زمن طويل مذ فارقنا الشيخ ميخائل منصور وانطلق إلي راحته الأبدية ولكن ذكره يبقي إلي الأبد وصورته تظهر لنا الآن ادق وأوضح مما كانت سابقاً لأننا نراها من بعد فتظهر لنا كل أجزائها بوضوح وجمال لا يظهران عن قرب . أن ألوانها حقيقية والمصور قد غمس ريشته في دم حياته ولب محبته فجاءت الصورة معبرة عن الحقيقة . إنه لا يستطيع أحد أن يقرأ سطور هذا الكتاب إلا ويرفع الشكر لله لأجل علامات قوة الإنجيل بمركز العالم الإسلامي .
أن الكنيسة الأنجيلية بمصر مديونة ديناً عظيماً لموسى المحبوب ولاخيه يشوع اللذين بالإيمان قادا الكنيسة إلي أرض الموعد التي تضم الملايين العديدة من اخوتنا واخواتنا المسلمين . فهل يخامرنا شك بأن الله الذي أعطي الباكورة الصالحة لا يعطي حصاداً غنياً وافراً ؟
اقرأ الكتاب
أنه سيحرك قلبك وينهض قواك ويبعث فيك شهوة جديدة فيها شهوة جديدة للتبشير كما فعل بي .
صمويل زويمر
حياته الإسلامية
هو محمد بن محمد بن منصور ولد بمدينة سوهاج عاصمة مديرية جرجا في شهر مارس سنة 1871 . وأدخل مكتباً ( كتاباً من كتاتيب القرى ) لتلقي القرآن حسب عادة أكثر أهل البلاد في ذلك الحين . وذلك في مسجد “العارف بالله” بسوهاج علي يد مقرءٍ مشهور بحسن التربية يدعي الشيخ / مسعود العزازي .
فأتقن الفقيد عليه حفظ القرآن في سنوات قليلة وظهرت عليه بوادر الذكاء والفطنة فأرسله والده إلي بلدة قريبة من سوهاج تدعي بلصفورة للتعلم . حيث بها مسجد معد لتدريس العلوم الإسلامية يؤمه الطلبة من كل جهات الصعيد . وذلك لأن القائم بالتدريس هناك كان مشهوراً بقوة رسوخ قدمه في العلوم النقلية والعقلية وغزارة مادته فيما يدرسه فضلا عن أنه كان مرشداً لكثيرين من الطلبة الذين ينتظمون في سلك الطريقة الصوفية الخلوتية وهو المرحوم الشيخ / علي بدر العالم المالكي الصوفي الخلوتي ، وحيد عصره وبديع زمانه في تلك الانحاء
فلما انتظم الفقيد في عقد التلمذة عليه أحبه حباً جماً لما شاهده فيه من قوة الفهم وجودة الفطنة . فنظرة بعين عنايته في التهذيب والتعليم . ورعاه بجميل رعايته في انماء قوة ذكائه وحسن إدراكه .
أنكب الفقيد علي موائده أنكباب الجائع علي الطعام يلتقط درر فرائده، ويقتبس حسن فوائده ، عشر سنوات كاملات. بمواظبة تامة ورغبة فائقة ، وفطنة باهرة، وطاعة نادرة، فأكمل علي شيخه المذكور فقه الإمام مالك .. وتلقي عنه في تفسير القرآن الكشاف والبيضاوي والجلالين . وفي الحديث الاربعين النبوية وصحيح مسلم والبخاري ، وكثيراً من كتب التوحيد واللغة والصرف والنحو والبيان والمنطق وقرض الشعر وأدب اللغة والفلسفة والتاريخ والاصول ، وطائفة كبيرة من كتب السادة الصوفية ، ومهر في كل ذلك مهارة فائقة بهرت في ذلك الحين رفقاءه ، وأعجب بها شيخه . يدلنا علي ذلك جملة شواهد تنبيئ عن فضل المتنيح . منها وضعه تعليقا في علم النحو يستحق الذكر . ومما يؤسف له أن هذا التعليق قد امتدت إليه يد الضياع فلم أعثر فيما تركه من الاوراق إلا علي مقدمته . علي انني قد رأيته عنده في حياته . وها أنا أثبت هنا تلك المقدمة .
قال : ” اللهم يامن شواهد صنعك ظاهرة البرهان . وعوامل أثارك محكمة البيان … الخ”.
أما بعد :
فيقول ذو التقصير والقصور محمد بن محمد بن منصور هذا تعليق طفيف علي شواهد . مغني اللبيب ، عن كتب الأعاريب ، حملني عليه من لاترد اشارته ، ولا يسعني مخالفته .
العالم العلامة الشيخ / علي بدر متع الله الأمة بوجوده وأفاض عليهم من جم انعامه وجوده . وإني وإن كانت بضاعتي مزجاة (وللشئ علي الشئ مقاييس وأشباه) جعلت علي مولاي إعتمادي وبه اعتقادي فقلت وعليه توكلت “
فهذه المقدمة وإن كانت في ذاتها لا تدل علي كبير فضل ولكنها تشير إلي مبلغ ما كان عليه الفقيد من المقدرةوهو تلميذ بعد . إذ لولا ذلك لما توجهت إليه ثقة استاذه في القيام بأمر ليس بالهين اليسير علي طالب !
ومنها انه وضع وهو تلميذ أيضاً منظومة في التوسلات الصوفية ضمنها أسماء الله الحسنى كلها حكم عالية ، ودرر غالية ، سنثبتها للقراء فيما يأتي من منظوماته ، استجلاء لنفسيته الإسلامية …. وقد كتب كثيراً من النثر والنظم سيرى القارئ بعضه فيما هو آت-
الطور الثاني من حياته الاسلامية
غادر صاحب الترجمة ربوع التعليم وودع حلقات الدروس وعاد إلي مدينة سوهاج في أواخر سنة1891 ، فكان في أول هذا العهد كثير التفكير ، قليل الكلام ، ميالاً إلي الإنفراد ، منكباً علي تصفح المطولات من الكتب أكثر نهاره . صارفاً في العبادة والذكر أكثر ليله . سالكاً مسلك كبار الصوفيين ، عاشقاً مفتوناً بالأمور الباطنية ، غارقاً في بحار البحث وراء الأسرار الإلهية ثم أخذ يكتب الفصول الرائقة ، وينظم القصائد الشائقة ، فأشرقت شمس فضله . وأزهرت رياض علمه ، فأقبل عليه كثيرون للاستضاءة بمصابيح نوره واستنشاق شذي زهوره ، يوضح المعميات ، ويحل المشكلات . حتي زاعت شهرته ، وشاعت خبرته ، وشاقت رؤيته فمال عن الأنفراد إلي المعاشرة . وكثر أصدقاؤه فدعي للخطابة والإئتمام بهم في أشهر مساجد سوهاج ثم فتح مدرسة هو وبعض أصدقائه فملئت منذ أول نشأتها بالطالبين .
بدء بحثه في المسيحية
في سنة 1893 قام في ذهنه أن يبحث في أمر الدين المسيحي مدفوعاُ إلي ذلك بوازع غيرته علي الإسلامية .. وحبه العظيم لنصرتها . فدرس ” كتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي ” الموضوع في الردود علي المسيحية . واستأذن شيخه الشيخ / علي بدر في دعوة المسيحيين إلي الإسلام ومجادلتهم ، فلم يوافقه الشيخ / علي بدر علي هذه الفكرة وكان فيما قاله له في هذا الصدد هذه العبارة : ” أخذت علينا العهود ألا نعترض علي نصاري ولا يهود ، ” وذلك خوفاً علي تلميذه من أن يقع في الخيلاء والكبرياء .. فناقشه في ذلك مبيناً له أن الدعوة إلي الإسلام ، ومجادلة من خالفه من أهل الاديان ، أمر من الله ، وواجب علي كل مسلم ، تبعاُ لقول : ” وادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنه وجادلهم بالتي هي أحسن
” :فقال : ” نعم إن الأمر كذلك ولكني أخشي أن تضيع وقتك في غير تهذيب نفسك وتنقيتها من الشوائب ، والمرء يحث عليه أن يعصي نفسه وهواه ، ويوفي ما أمره به مولاه … ” فسكت ولم يرقه هذا الرد ، وأصر علي ما عول عليه من مباحثة المسيحيين ولاشك أن هذا كان بدء عمل الروح القدس في إيجاد الأسباب وتعيين الطرق الموصلة إلي الخلاص حيث قد كان مدفوعاً بقوة عظمي لهذا الأمر….
وأول من فتح الحديث معه في هذا الشأن رجل صباغ يدعي / ميخائيل كان قد تعرف عليه من ذي قبل . فلما خاطبه في الأمر أجابه بأنه لا يعرف شيئاً في الدين . وقال له إذهب إلي من يعرف ذلك من القسوس … ولما ألح عليه في ذلك أخذه إلي قسيس أرثوذكسي يدعي القمص / منقريوس ، فلم يقنعه وأرشده إلي عريف أعمي فلم يشأ العريف أن يباحثه ، وقال له أنا أعرف أنه لا يمكن أن يجيبك علي أسئلتك هذه إلا قسيس الإنجيليين … فتعال معي إلي الجمعية الإنجيلية وكان دخولهما أثناء الخدمة . فأدهشه منظر العبادة ، وراقه جلوس جماعة المصلين بإصغاء تام لواعظهم الذي كان يشرح لهم بعض آيات الكتاب المقدس ، وسر بما رآه من التسابيح والصلوات الروحية وأفكار الواعظ عن الله لأنه لم يكن يخطر في باله مثل كثيرين من المسلمين أن المسيحية فيها مثل هذا النوع من العبادة … حيث أن أغلبهم يظن أن عبادة المسيحيين محصورة في السجود لتماثيل المسيح والقديسين مما يعدونه ضرباً من ضروب الوثنية .
ولما انتهت الخدمة قدمه العريف المذكور إلي خادم الكلمة وبعد التعارف ومعرفة الغرض عينا زمانا ومكاناً للمناقشة . ولما أجتمعا حسب الموعد المضروب تناقشا في الوحدانية والثالوث وأفاضا في هذا الموضوع أخذاً ورداً وطالت مناقشتهما علي غير طائل . بل إنه شعر بعد الجدال بتفوق الإسلامية علي المسيحية وعظم أعتقاده بفساد العقائد الإنجيلية . ولكنه قبل إنصرافه قال له المبشر : ” كل امريء يطلب من ربه الهداية وأنا أنصحك أن تطلب من الله الارشاد إلي الحق ” فقابل هذا الكلام بنوع من الإستهزاء قائلاَ له : ” وهل أنا أشك في عقيدتي؟ !!! معاذ الله إن كل مسلم يطلب من الله الهداية كل يوم خمس مرات في صلواته ودعواته ” بيد أنه بعد مفارقته له دار في خلده ما طلبه منه المبشر ” أنا أنصحك أن تطلب من الله الارشاد إلي الحق” وأخذت نعمة الروح القدس تعمل عملها في قلبه … فتسرب إلي نفسه الشك في ما هو عليه وأخذ يناجي نفسه هل أنت علي الحق حقاً ؟ . وما يدريك لعلك علي باطل ؟ … وظل يردد هذه الافكار وما مماثلها حتي وقع في هم مضن وغم مبرح وقد أثر فيه هذا الفكر تأثيراً كلياً فأخذ يجاهد نفسه ليتخلص منه وينزع أثره من قلبه فلم يفلح ولم تجد الجهود التي بذلها نفعاً . وظل يتخبط بين الشك واليقين ، وليس هناك من براهين تجذبه إلي المسيحية ، ولا أسباب تنفره من الإسلامية ، بل الروح القدس وحده …
ثم ازداد هذا الفكر عنده حتي اعتقد بأنه ليس دين أولي بالاتباع من الآخر إلا بالنظر والإستدلال وحينئذ رأي جميع الأديان في مستوي واحد ، وأن الإنسان العاقل الحر المختار يصطفي منها لنفسه ما يشاء
ثم أخذ يسأل ويبحث ، ويتردد علي الكنيسة الإنجيلية في بعض الليالي يسمع الكلمة ، وقد أثر فيه بنوع خاص موضوعان سمعهما حينذاك من جناب القس / ميخائيل أبادير راعي الكنيسة الإنجيلية بالأسكندرية حينما كان يبشر في سوهاج أخذهما عن قول بولس الرسول ” أمين هو الله الذي به دعيتم إلي شركة ابنه يسوع المسيح ربنا ” 1كو9:1 ، والثاني من المزمور الخمسين – ” ذابح الحمد يمجدني والمقوم طريقة أريه خلاص الله” مز23:50 وهو في كل هذه المدة يقاسي ما يقاسي من العناء الزائف الذي إنتابه بتنازع الأفكار ، حديثها وقديمها ينفي ويثبت ، ويشك ويتيقن ، حتي لقد ظننا أنه قد أصيب بمرض عقلي . فقد كان يدخل غرفته ويغلق بابها عليه طول النهار وقد شحب لون وجهه وظهرت عليه علائم القلق والارتباك وكثيراً ما أراد والده وبعض أصدقائه أن يقفوا علي أسباب قلقه منه فلم يجب بشئ – ولقد عكف علي قراءة الكتاب المقدس من أول الأمر مفتشاً عن الحق الإلهي فيه أناء الليل وأطراف النهار . فقد كنت أراه معه في كل وقت . ولكنه كان يحاذر جهده أن يراه أحد غيري معه وقد أمرني بعدم إخبار أحد به . وبعد مدة ظهرت علي وجهه علامات السرور والبهجة وعاودته بشاشته القديمة ، وما ذلك إلا أن أنوار الفادي شملته وأشرقت علي نفسه ” شمس البر والشفاء في أجنحتها ” بما رآه في الإنجيل من تقرير الصفات الإلهية وتمثيلها للعيون بابدع مثال وأجل كمال . لقد تجلي له المسيح بمحبته الفائقة ، وقدرته النادرة ، وسمو مبادئه ، وجلال عظمته ، وجمال تعليمه ، وعلم إنه وحده الطريق والحق والحياة ، وأن الإنسان خاطيء وجاهل وعبد ولا يخلصه غير المسيح .
ثم كثر اختلاطه بالمسيحيين وامتلآت مكتبته بالكتب المسيحية فأخذ بعض المسلمين أولا يهمسون بميله إلي المسيحية ، ولا يقدرون أن يجهروا بقولهم ، لإنه لا يصدق عن مثله ذلك فهو العالم المحقق ، التقي الورع ، الصوفي العابد . من يصوم نهاره ويقوم ليله
ثم كثر المشتبهون وتوجهت إليه الأنظار فأنكروا عليه مخالطة المسيحيين ودخوله إلي منازلهم . فكان يداريهم جهد استطاعته ولا يذهب إلي منزل أحد المسيحيين الا متخفياً وغالباً تحت ستار الليل . غير أن ذلك لم يفد فإنه قد كثر مضايقوه ورموه بالإلحاد والكفر وفي ذلك يقول :-
فقد زعموا إني بحبك ملحد وإني بتصديقي كتابك كافر
وقالوا مضل جبه الله وجهه وأحرمه نيل المني وهو قادر
فإن كان حب الله جل جلاله وتصديقه كفرا فاني كافــر
ولما رأى منهم ذلك ورأى أيضاً أن المجاهرة بايمانه وزراً عليه ، وحملاً ثقيلاً تنوء به نفسه ، طلب من الكنيسة الإنجيلية أن تعمده فتوانت الكنيسة خوفاً وقابلت طلبه بفتور لم يكن ينتظره ، فرأي موقفه صعباً أمام الله أولا، والناس ثانياً فاطلع قسيس الأقباط الكاثوليك هناك علي هذا الأمر وكانت بينهما معرفة فأجابه : ” بأن الكنيسة الكاثوليكية مستعدة أن تعمدك حالا بمساعدتي ” . وكتب تواً إلي البطركخانة الكاثوليكية في القاهرة بخبرة فطلبت منه إرساله إليها .
فلم نشعر إلا وفاجأنا بفكرة سفره . فسلم المدرسة إلي شريكه فيها وترك كل شئ …
وسافر علي جناح السرعة وأنضم إلي الكنيسة الكاثوليكية بالقاهرة وذلك في أواخر سنة 1894 واختار أن يدعي ” ميخائيل منصور ” وهكذا عن عماده باسم الآب والابن والروح القدس …
ولكن ما كاد يمر أسبوع واحد علي سفره حتي شاع في كل أنحاء سوهاج والبلاد التي تجاورها خبر تنصره فتوافد الناس إلي منزلنا أفواجاً أفواجاً ، يسألون عن الحقيقة ولم يكن المسئول بأعلم من السائل حينئذ. فسافر والده إلي القاهرة في الحال ليقف علي جليه الأمر وظل خبر تنصره حديث الناس وموضوع تحدثهم كباراً وصغاراً ليلاً ونهاراً .
أما حال أمه وإخوته وسائر أفراد عائلته وأصدقائه فلا يستطيع قلمي العاجز وصفها ، فقد أخذت والدته في العويل والصياح والندب والبكاء . وكذا إخواته وخالاته كأنه قد مات . وامتلأ البيت بالنساء والرجال يعزون ويتأسفون ويطلبون من الله عدم تحقيق الخبر .
ولم أنس شيخه الشيخ / علي بدر وهو يبكي بكاء الثكلي قائلاً ” لا يوجد عندنا غيره في علمه ومقدرته اللهم لا تحقق ما سمعناه ” وغير ذلك كثير مما تقتضيه الحال .
أما والده فلما وصل القاهرة وبحث عنه وجده في دار البطركخانة القبطية الكاثوليكية فأخبره بما شاع في سوهاج عنه فأجابه بأن كل ما سمعته حق لاشك فيه … فاني قد وجدت راحتي في الإيمان بالمسيح مخلصاً…. فنزل هذا القول علي والده نزول الصاعقه . وانسحق قلبه حزناً ، وكاد يجن غضباً ، وأخذ يهدده تارة ، ويتوسل إليه بالدموع طوراً ، وهو لم يزدد إلا تثبتا في إيمانه وتمسكا بأهداب فاديه .
وأي بليغ يستطيع أن يصف مثل هذا الموقف الذي يقطع نياط القلوب ويحرق الأكباد . موقف تجلت فيه العواطف بجانب الواجبات . والد يبكي متوسلاً أمام ابنه وابن يجيبه – ببكاء أمر من بكائه – يبكي الوالد بكاء الراجي في الحصول علي فائت ويبكي الابن بكاء المتيقن من ضياع رجاء أبيه .
يبكي الوالد علي أكبر أبنائه من قصر همه علي تعليمه وتهذيبه وحصر فيه آماله ، وشيد عليه قصور مجده وفخره ، وإذا بالآمال قد زالت وشيكاً ، والقصور قد إنهارت سريعاً …
يبكي الوالد علي سهم كان يعده لأن يطعن به قلب صروف الزمان ، وإذا الطعنة قد أرتدت إلي فؤاده !
ويبكي الابن اشفاقاً علي والده وتوجعاً لحرمانه من عطفه ، وحرقته علي استلاله من بين والديه واخوته ، كالمقله أستلت من الأشفار .
يبكي الابن لأنه يرى نفسه مضطراً لمعصية والده في طاعة المسيح ولما لم يجد البكاء ولم ينفع الوعد ولا الوعيد طلب منه أبوه أن يرسل معه عدة رسائل إلي كبار أهل البلد يكذب فيها خبر تنصره أسكاتاً للألسنه ، وفراراً من العار الذي لحق العائلة ، فلم يوافقه علي ذلك قائلاً له ” فضلاَ عما في هذا من إثم الكذب فإن المسيح قال من أنكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السموات” …
فرجع والده إلي سوهاج ينوء بحمل أحزانه وأخبرنا بما دار بينهما ولكنه طلب منا كتمانه ومن كان يستطيع منا أن يقر بتنصره …. واشتدت عندنا حال الحزن والأسف فظل والده منزوياً مدة من الزمن تكتنفه عوامل الحزن والأسف الشديد ويحيق به تأثير المصيبة والعار .
أما إخواته فقد كتبوا إليه عدة رسائل ، بعضها بالاستفهام عن الحقيقة وبعضها بالآدلة والبراهين علي صدق الإسلامية وفساد المسيحية منها رسالة مطولة كتبها جناب العلامة الشيخ / علي بدر مشحونه بالأقوال الكثيرة ضد الكتاب المقدس والعقائد المسيحية . وإني وأن لم استطع اثباتها هنا فقد رأيتها وقرأتها عدة مرات إذ كانت محفوظة عند الفقيد زمناً طويلاً . ومنها رسالة صديق له يسمي الشيخ / حسين مقلد هذا نصها .
“جناب العالم الكبير والفاضل الخطير:
يعلم الله أن قلوبنا فتتها الخبر السيئ الذي وقع عليها وقوع الصاعقة ألا وهو خبر أعتناقكم الديانة المسيحية الأمر الذي لا تكاد عقولنا تصدقه ، وتنبو آذاننا عن سماعه نسأل الله ألا يحققه ، فإنه ضربة علي الإسلام والمسلمين ، وقذي في عيون المريدين والمرشدين ، وأذي في قلوب الاهل والمحبين ، فتكرم بما ينفي ما ردده المرجفون ، وأسرع بتكذيب ما فاه به اللائمون ، وبردْ حر لظي القلوب ، وفرج عن الصدور الكروب ، واذكر قوله تعالي : ” ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ” .
ومنها رساله لجناب العلامة الشيخ / محمد عبد ربه خادم العلم الشريف بسوهاج أرسلها للشيخ / بكر الحداد المعروف بالقاهرة قال فيها :
بعد السلام والتحية
“شاع أن حضرة الشيخ / محمد بن محمد منصور يريد أن يعتنق النصرانية فتأسفت لذلك نفوس المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وكادت أرواحنا تزهق دون أن نسمع بمثل هذا عن مثله
” فأرسل الشيخ / بكر الحداد في طلب الفقيد وسلمه الرساله المذكورة بعد أن ناقشه في الدين طويلاً .
ومنها قصيدة عامرة الأبيات أرسلها إليه جناب الشاعر العربي الكبير الشيخ / محمد عبد المطلب حيث كان وقتئذاك معلماً بمدرسة الحكومة بسوهاج .
وهي مملوءة بالعواطف السامية والرقة المنسجمة والشاعرية العظمي . وحيث أن الشعر من قديم الزمان ديوان العرب ، به يستدل علي الحوادث ويستخرج منه الأخبار ، فقد ضمن حضرة الشاعر قصيدته حقائق راهنة توضح الحال التي كانت في ذلك الوقت – وهأنا مورد هنا كثيراً من أبياتها للاستدلال علي ما كان .
قال في مطلعها يصف الشوق الذي كان لصاحب الترجمة من أهله وأصدقائه والحرقة التي أصابتهم بفراقه : –
أيــحلو لهــا هــذا التنائي فتهجع ومــنزلهــا بيــن المنــازل بلقع
يحــن فيستبــكي الغمائــم رحمـة ومِــن وجــده ورق الحمائم تسجـع
ولولا نوي الأحباب ما استعذب اللقا ولـــــو شـتات الشـمل مالـذ مـجمع
أغـالبـها والوجــد يغلـب مهجتــي فـــما جـزعـت الا وقلـبي أجــزع
لــه زفــرات لـو تقسمـن في الورى وأدرك رضـوي بعضـها يـتصــدع
ومنها يشير إلي مفاجأة قومه بالسفر من غير أن يودع أحداً من أصدقائه :
خليــلي عنــي بلُغاهــم تحــيت يولــو أنهم ماسلموا يــوم ودعوا
تجمعــت الاضــداد يــوم تـرحلوا لهيــب يـذكيـه مـن العـين مدمع
ومنها يصف أمل آله في رجوعه إلي الإسلامية وذلك كان لسان حال كل من عرفه حيث كان من البعيد المنكر أمر تنصره واستمراره في النصرانية لما كان عليه من شدة تمسكه بالاسلامية:
ديارك يــا ســلمي علي العهد لم يزل بــــها أمــل أن الليالي ســترجع
ويــادارهــا لا تجــزعي أن بينها سحــابه صـيف عن قـريب تقشع
هبي انــها بانت فــما كل ظــاعن لــــديه مـواثيق العــهود تــضيع
وإن خــيمت ربــعاُ سواك فأنــما جــرت عـادة الدنـيا مغـيب ومرجع
ويــارب بين لا يـرجي انقــطاعه ويـــارب نــار شـاقه العود بعدمـا
ومنها في استعطافه واغرائه بالرجوع:
ويــارب داع لا يجــاب وإنمــا دعــــوت فتي يصـغي إلي ويســمع
وإن نصـح النصــاح من لا يطيعهم فإن إبن منصـور إلي النصـح أسمع
ومنها يصف مقام المنتقل ومبلغ مكانته من العلم والمعرفة والفهم والذكاء: –
دعـوت أخـا الآداب دعـوة مشفق وعـهدي بـه ذاك الأديـب السميـذع
أخــا الادب المشهور والسيرة التي عــــــبير شـذاها بــيننا يــتضوع
عــرفتك بالاداب في قـــومك الألي تــــركتهم والــكل آسٍ وموجــــع
فإن كنت في شــك فما أنت بالـــذي لـه شبه الجــهال في الحــق تخدع
ومنها في إكباره عن المعتقدات المسيحية ووصفها بالبطل ووصف أهلها بالجهل: –
أخــا الحق بالله الذي أنـت عبده بـــأي دليل أنــت للقــوم تتـــبع
فإن جــهلوا هل أنت تجهل مثلهم بـلي أنت عـن أهـل الجـهالة ارفع
أخا الفضل حتام التواني عن الهدي وحتي متي للمــنهج الحــق تــرجع
يــعيرنا قوم شرحـت صـدورهــم بــأمر هـو المـر الـــذي نتــجرع
ولو كان حــقاً ما أتيت لـــما انكوت قــلوب ولا سـالت من العين أدمـع
نصحتك فاقبل إن تشأ واطرح الهوي ولا تتبع قوماً أضيـعوا وضــيعوا
ثم شفع هذه القصيدة بكتاب موجز قال فيه :
“كتابي إليك ومن يرد الله أن يهديه يشرح قلبه للاسلام . فتذكر معاهدك في مشهد ـ ألست بربكم ـ ولا تكن ممن طاشت بهم الآحلام فضلوا سواء السبيل والسلام .
إلي هنا وقد انتهي ملخص حياته الاسلامية .
حـياته المسيحيـة
خلع الانسان العتيق بميوله ورغائبه . وألبس الانسان الجديد بميول جديدة . وطباع جديدة . بل هوذا قد صار الكل جديداً. فنقض الاسم القديم / محمد بن محمد بن منصور بعد أن دعي به نيفاً وعشرين عاما ! ، وقام علي أنقاضه الاسم الجديد / ميخائيل منصور … وتحول مجرى سبيله إلي الله إلي السبيل الحق الموصل للأمجاد . وتغيرت كيفية الصلوات والابتهالات واتجهت الاشواق القلبية إلي نقطة مركز دائرة الخلاص ، وسر الهداية ، ونور العالم ، المذخرة فيه كل كنوز العلم والحكمة سيدنا يسوع المسيح .
تعمد باسم الاب والابن والروح القدس في أواخر سنة 1894 كما ذكرنا وفي اغسطس سنة 1895 سافر صحبة وفد كاثوليكي إلي رومه فقابل ” البابا ليون الثالث عشر ” بزيه الإسلامي مقابلة ذات شأن حيث قربه إليه وباركه وطلب من الله أن يثبته في الايمان المسيحي .. وأهدي إليه جملة من الصور والتحف الثمينة ، وكانت هذه الزيارة موضوع اعجاب كل من رآه أو سمع به في روما ، ولقد قصده في الفندق الذي كان نازلاً به بروما جملة مصورين لأخد صورته كذا صور في طريقه إلي الفاتيكان عدة مرات بعمته وقفطانه .
وبعد رجوعه من روما ظل بضعة شهور يبحث في المسيحية طائفياً … ولما لم يجد في الكنيسة الكاثوليكية التعاليم والمباديء التي تلقاها في بدء بحثه مع الطائفة الانجيلية من جهة حصر الخلاص في المسيح وحده، والاقتصار علي تعاليم الكتاب . فقد رأي الرجوع إلي الكنيسة الانجيلية واجباً فعاد إليها وإنضم إلي عضويتها في كنيسة الازبكية يوم 26 ديسمبر سنة 1897 علي يد مجلسها الذي كان يرأسه المرحوم الدكتور / هرفي حينئذاك ولقد قال عن نفسه في هذا الصدد : ” وتعلمت كثيراً من أخلاق المرسلين عن المسيحية الفضلي التي جذبتني إلي المسيح أكثر وعرفت من لباب الإنجيل إن المسيح وحده مخلص العالم ” .
الصعوبـات التي قابلها
إنني لا أعمد نفسي مبالغاً إذا قلت إني لم أرّ في من رأيت شخصاً تمجد المسيح في صعوباته وآلام نفسه مثله ، وابتدأت هذه الآلام منذ عقد النية علي قبول المسيح رباً ومخلصاً ، فقد كان محباً لوالديه واخوته وباقي أفراد عائلته حباً جماً لم يتوفر إلا في قليل من أمثاله فكانت نفسه مضطربة جداً عندما عول علي مفارقة العائلة وظهرت علي ملامحه الآلام مجسمة ولكن ظل الايمان يحارب في داخله هذه العواطف حتي انتصر عليها فأطاع الذي يقول ” من أحب أباً أو أماً أو اخوة أو أخوات اكثر مني فلا يستحقني ” أذكر أنه كتب إلي وإلي كثيرين من المسيحيين مستفهماً عن كل ما جرى وما يجرى من الصغيرة والكبيرة قائلاً في إحدي رسائله إلي “أريد أن تصور لي أحوال العائلة كلها كما لو كنت مشاهداً لها بنفسي فأكتب لي عن المحادثات والأكل والشرب والنوم والخروج والدخول وكلام الأطفال … الخ الخ ” وظل تواقا إلي هذه الأمور مملوءاً قلبه بالحب إلينا حتي آخر حياته . ففي أيام احتضاره قال لي ” اكتب إلي العائلة فرداً فرداً وقل لهم إني مت متمتعاً بسلام المسيح عسي أن يأتوا إليه فيخلصوا .. “
كذا قد قابل آلاماً في مجاهدة الاميال القديمة فقد كان المثل الحسن في تمسكه بالاخلاق والعادات الإسلامية المحصنة وكانت نفسه قد توطنت وألفت العبادة الاسلامية من قيام بصلاة وصيام وتهجد حسب الطريقة الصوفية التي كان منظوماً في سلكها . ولكن (أن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة … هوذا الكل قد صار جديداً .
كذا قد تألم كثيراً قبل عماده مما لهج به الناس من الذم وما واجهوه به من الاحتقار والاستهزاء والمضايقة وقوارص الكلام ، ولكنه قبل عماده ببضعة أيام أظهر عدم الاعتداد بكل ما يقال فجاهر أمام كثيرين بمقصوده بلا خوف ولا رهبة وأحتمل بصبر وسرور كل مضايقة .
وعلي أثر تحقق العائلة من صدق عماده سافر خاله من سوهاج بغير علم أحد إلي مصر قاصداً قتله وتخليص العائلة من عار تنصيره وظل يبحث عنه حتي عرف محل إقامته وراقب مواعيد خروجه ودخوله ثم كمن له في إحدي زوايا ” درب الجنينة ” قرب بطركخانة الاقباط الكاثوليك في ليلة من الليالي وعند ما مر الفقيد هوي عليه بسكين ولكنه إنتبه قبل أن يمسه وعاجله بضربة من عصاه علي يده أسقط بها السكين وقبض عليه بقوة فلم يستطع أن يفلت من يده . وبدلا من أن يسوقه إلي دائرة البوليس أظهر له روح المسيحية فلاطفه وقال له : ” هأنا قادر أن استغيث الآن وأسلمك إلي الحكومة متلبساً بجريمتك . ولكن المسيح الذي اعتقدت به يطلب مني أن أسامحك . ولا أجازيك عن شرك بمثله . فقط تتعهد لي أن تسافر الليلة إلي سوهاج ” .
فشكره خالي وتعهد له بالسفر فشيعة إلي المحطة وكلمة كثيراً عن خلاص المسيح وظل معه ملاطفاً له حتي سافر به القطار . وقد كتب إلينا بما حدث في تلك اليلة فهلعت قلوبنا خوفاً عليه وأقسم أبي يميناً ألا يدخل خالي البيت بعد أن هدده وقال له ” ألا تعلم أنه إبني وفلذه كبدي . فضلاً عن أنه ربما عاد إلي الاسلام ” وهكذا ظل خالي بسبب هذا الحادث لا يدخل بيتنا أكثر من سنتين ـ وغير هذا لم يحصل عليه تعد من أفراد العائلة . أما من أهل سوهاج فقد وقعت عليه عدة إهانات سباً وشتماً واحتقاراً من بعضهم عندما كانوا يرونه في مصر .
كذلك تحرش به كثيرون وأهانوه و مرات هوجم ليلا في طريقه فتخلص وذلك من أشخاص معروفين له وغير معروفين ولولا أنه كان جريئاً مقداماً ومهاباً وقوراُ لكان قد فتك به مضطهدوه أما خطابات التهديد والوعيد التي كانت تتوالي عليه فكثيرة جداً ومخيفة ولكن في كل ذلك لم يظهر عليه أدني تأثر ولا تسربت إلي نفسه الرهبة من أحد بل في جميعها مجد الله وقد عظم أنتصارة بالذي أحبه . وبرهن علي أنه معضد بالنعمة .
إيمانـه
كان قوي الإيمان بالمسيح مفتخراً به فلم ينكر سيده لا بالقول ولا بالفعل ولا بالاشارة ولا بالصمت عن إظهار ما يحق إظهاره في أي ظرف من الظروف ومع أي كان من الناس لا في السر ولا في العلانية مكرراً مانظمه فيه صباح مساء :
وكشفت لي عن نور وجهك في الدجي فشهــــدتُ مـــن معناك ما لا يوصف
وعلـــــمت إني كنت أعمـــــي بائساً والآن أبصـــــر ماتشاء وأعـــــرف
قال لي عند زيارتي له لأول مرة وقد كنت أكلمه عما فاته بتنصره من المزايا الاسلامية . هل تقول إني ضحيت بتنصرى ؟ قلت : نعم . فقال ماذا ضحيت ؟ فقلت ضحيت كثيراً . ضحيت عائلتك . ضحيت شهرتك العلمية . ضحيت ما كنت لابد واصلاً إليه من المراتب العالية والوظائف السامية . ثم صمت . فقال : عدد واذكر ما شئت مما هو في نظرك تضحية ولكن كل ذلك لا توازى قيمته قيمة ساعة واحدة من الوجود مع المسيح وفيه . والحق يقال إني هزأت بهذا الكلام فلم أكن وقتئذ أدرك قيمة معرفة المسيح التي تحسَبُ خسارة كل الاشياء معها نفاية .
وأذكر أيضاً أن في السنة الأولي من تنصره طلبنا منه أن يزيل خطاباته التي يرسلها إلينا باسمه الأول محمد منصور فأبي إباء كلياً . فعرضنا عليه أن يزيل الخطابات بكتابة م . م ويعتبرها هو ميخائيل منصور ونتمكن بذلك نحن من مغالطة الناس باعتبارها كناية عن محمد منصور فأجابنا بقوله إن هذا لا يمجد يسوع ولست اريد أن أحداً يشك في إيماني .
وزارني مرة في منزل كنت أسكن فيه بجوار الأزهر مع لفيف من الطلبة الأزهريين فاجتمعوا حوله وتحدثنا في امور كثيرة فقال أحدهم نحن هنا بعيدون عن المسيحيين فهل حقيقة أنت تؤمن أن المسيح إله؟ فما أتم الاستاذ جملته حتي وقف منتصباً وألقي خطاباً مملوءاً بالحماس والغيرة عن لاهوت المسيح حتي لقد خفت عليه حينئذ من خطر يلحقه ـ ومرة آخرى حضر إليَّ مع المرحوم الخواجا / عطية حنا الذي كان محرراً لمجلة المرشد وقابلاني مع جملة من التلامذة خارجين من الازهر فقال له أحد معارفه ألم تأسف علي ما فعلت من تنصرك فقال إنما أسفي علي الزمن الذي قضيته بعيداَ عن المسيح ونعمته قبل تنصري ..
ويجدر بي هنا أن أذكر أول شئ راقه في المسيحية وجذبه للمسيح حتي ندرك قيمة عوامل الجذب فيكون أمامنا منهاجاً لربح النفوس وأكتفي هنا بما قرره عن نفسه في هذا الصدد فقال : ” لما أتاح الله لي من أعطاني الكتاب المقدس عكفت عليه من أوله فوجدت شيئاً لم تسمع به أذني ولم تره عيني ولم يحلم به لبي من قبل ” ذلك إني رأيت تاريخ الخليقة علي اسلوب عجيب وتدبير فائق . وعرفت منه تاريخ الإنبياء مفصلاً ولم أعرفه من القرآن إلا مجملاً . وزال من نفسي كثير من المشاكل التاريخية التي جاءت في القرآن ” كوزير فرعون هامان ” وتكليفه إيان أن يبني له صرحاً ” برجا ً” وكمريم إبنة عمران وكذي القرنين وغيرهما . وليس ذلك شيئاً إذا قيس بما جاء به الإنجيل الطاهر كقوله ” هكذا أحب الله العالم حتي بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به . بل تكون له الحيوة الأبدية ” .
وقوله : مما يظهر روحية الشريعة الالهية ” قد سمعتم إنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم . وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب علي أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم ” وقوله في بيانه سمو السجايا وكمال الاخلاق ” قد سمعتم إنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلي مبغضيكم وصلوا لاجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبنا ابيكم الذي في السموات فإنه يشرق شمسه علي الاشرار والصالحين ويمطر علي الابرار والظالمين لأنه أن أحبيتم الذين يحبونكم فأي اجرلكم” وغير ذلك كثير مما لم أطل به فشعرت بحب شديد وميل كلي لاتباع يسوع المسيح وعلمت أن الإنسان خاطيء ولايخلصه الا يسوع المسيح “
انتهي ما قاله عن نفسه بخصوص بدء إيمانه . ومنه نعلم أن الإنجيل وحده كان السبب في هدايته فهو ” قوة الله للخلاص لكل من يؤمن ” …..
أخلاقه وصفاته
كان طيب القلب كثير الصفح ميالاً جهده إلي المسالمة تتدفق من قلبه أنهار المحبة للجميع دائم البشاشة والبشر لا يري عابساً إلا نذراً فلا تلبث عبوسته إلا ريثما تحل محلها طلاقة شائقه . ولا يخلو حديثه من فكاهات تأسر لب سامعيه . ولذا كان محبوبا من جميع من يعرفه فكان إذا جلس علي مقهى إلتف حوله عشرات من محبيه والمعجبين به . وكان إذا مر في أي شارع حياه كل من يلاقيه أو يمر عليه تحية الآحترام والحب الخالص وليس ذلك من المسيحيين فقط بل من المسلمين أيضاً . وكان وقوراً تلمح في وجهه هيبة خاصة تحملك علي احترامه وأكباره من أول وهلة . وكان كريماً جداً يشفق علي الفقراء ويعطف عليهم كل العطف فكان إذا تحقق من أن السائل في حاجة أعطاء فوق ما يحتاج ومن ذلك إنه كان يصرف علي بعض الأيتام والأرامل مع فقره مدة من السنين ويقول إني غني بالمسيح . وكان لا يتأخر عن مساعدة من يقدر أن يساعده بالذات أو بالواسطة في أي أمر من الامور ولو كبده تعباً أو ناله ضرر في هذا السبيل .
أما شجاعته الأدبية فحدث عنها ولا حرج فهو جريء القلب لا يرهب في سبيل الوصول إلي الحق أمراً . ولا يهاب في طريق الهدي والأرشاد خطراً ، فقد وقف عدة مواقف رهيبة كأنه قد من جندل .
ففي ليلة من ليالي أجتماع الأزبكية أجتمع نحو 700 سبعمائة شخص فيهم كثيرون من كبار الأشقياء وأشرار البلد وكانوا يصرخون نريد أن نقتله لا ننصرف حتي نميته فخاف المرسلون عليه وأشاروا أن يهرب من الباب الخلفي للكنيسة فأبي ووقف علي طرف المنبر ثم كشف عن صدره وصرخ قائلاً من يريد أن يقتلني فليتقدم فلست أفضل ممن مات لاجلي … ولست أدري بأي شيء أعلل ما حدث في هذه الآونة؟ فإن الحماس الشديد قد زال من المتحمسين للشر في الحال وكأنما قد أصيبوا بذهول فصمتوا جميعاُ ثم تلاشت صرخاتهم وخرجوا وخرج معهم وبعضهم أوصله إلي بيته بهدو وسكينة .
وعندما حملت جريدة اللواء المصري علي التبشير والمبشرين لسببه وعرَّضت باتخاذ طرق الشدة لإخفات صوت المنادين بالإنجيل ذهب بنفسه إلي إدارة اللواء وقابل المرحوم / مصطفي كامل باشا وطلب منه أن يضع حداً لحملات اللواء فأجابه مصطفي كامل باشا إننا نقاومكم بأقلامنا وإن لم تنفع فبنارنا وحديدنا . فقال له الفقيد ولكنكم لا تستطيعون أن تحملونا علي الصمت والكف عن التبشير وإننا سنقابل ناركم وحديدكم بمحبة المسيح فنغلبكم … فهدأت ثورة مصطفي باشا وقال إنما كل ما نطلبه منكم ألا تجرحوا عواطفنا في ديننا فقال هذا ما طلبه منا المسيح قبل سعادتكم . ومع ذلك فكيف نجذبكم للمسيح إن جرحنا عواطفكم ؟ وهكذا إنتهي الحديث بالمصالحة والمصافاة .
ومرة حمل جماعة من الإزهريين علي حركة التبشير أيضاً فكتب خطاباً مفتوحاً نشر بجريدة مصر إلى شيخ الازهر ومفتي الديار المصرية مطالباً باسكات العلماء عن السباب والقذف ومبيناً أن التبشير واجب من أقدس واجبات المسيحية لا يسوغ السكوت عنه وأمضي كتابه هذا بميخائيل منصور المتنصر . وكثير غير هذا مما لا أستطيع له عداً من مواقف الشجاعة الكبري .
عمله وبدايـته فــيه
كان الفقيد في أول تنصره مقتصراً علي الأشتغال بالتدريس فدرس بمدارس الكاثوليك ثم سافر إلي كلية أسيوط فدرس هناك بضعة شهور ثم طلب أن يقيم بمصر ” القاهرة فرجع إليها وظل مدة يدرس بكلية الجزويت ويعلم بعض المرسلين الاميريكيين اللغة العربية. ففي يوم كان يدرس جناب الدكتور هنت في سفر أشعياء النبي فوقع في قلبه الكلام الذي سمعه النبي من فم السيد الرب . إش 8:6 و9 “ثم سمعت صوت السيد قائلاً من أرسل ومن يذهب من أجلنا فقلت هأنذا أرسلني فقال إذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعاً ولا تفهموا .
وأبصروا إبصاراً ولا تعرفوا ” فبعد التأمل قال لجناب الدكتور / هنت : ” أنا أشعر إني مسؤول من جهة تبشير إخوتي المسلمين وأن الله يريد أن يرسلني من أجلهم ” فتأثر جناب الدكتور هنت . وبعد استشارة الرب والصلاة معه من أجل ذلك أجابه بأن الفكر من الرب .. وفي نفس هذا الاسبوع عقد مجتمعاً للمسلمين في كنيسة الازبكية فحضره عدد قليل من المسلمين ثم نما العدد حتي صار مئات وجلهم من المتعلمين بل من العلماء القادرين والاجلاء المطلعين فكانوا يباحثونه فيرد عليهم بكلام مؤثر وغيره فائقة وعلم واسع وحجج لا تقبل الدحض وبراهين لا تحتمل النقض مستشهداً بنصوص من القرآن والحديث وسائر الكتب العلمية الكبري المعول عليها في الاسلام فكان موضوع دهشة الجميع .
قال لي أحد العلماء مرة أنت أخو الشيخ / ميخائيل منصور فقلت نعم . فقال ان أخاك رجل فذ لم تسمح بمثله الايام . فقلت له ولماذا . قال لي كنت في أول سماعي له متهماً له بالكذب فيما يرويه من الكتب الإسلامية وذلك لكثرته وتفرقه في الكتب المطولة لانه يبعد أن يحفظ عالُم كثرة هذه الشواهد في كل موضوع يفتح أمامه فيتكلم عنه هكذا مرتجلاً ! . وفي ليلة من الليالي أردت إن أكتب كل ما يستشهد به فاستشهد بجملة شواهد عددتها في نهاية كلامه فإذا بها من إثني عشر كتابا من الكتب المهمة . وفي اليوم التالي ذهبت إلي مكتبة الازهر وبحثت عنها في المصادر التي ذكرها فإذا هي بحروفها ومواضعها !! . فأكبرت الرجل وتأكدت أنه من العلماء الذين يرحل إليهم . وقال لي صديقي الشيخ / محمد المنوفي العالم الازهري إنني ذهبت في ليلة أنا والشيخ علي منا العالم لكي نسمع أخاك فوجدنا في شخصه عشرين عالماً وكنا معولين قبل رؤيته علي مباحثته فلما سمعناه عدلنا عن المباحثة لأن الإعجاب به تملك كل مشاعرنا .
ومن المواقف المشهورة مباحثاته التي ظلت أشهراً مع الشيخ / زكي الدين سند الذي كان رئيساً لجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية وأخرى مع الشيخ الفاضل خيرت بك راضي المحامي الشرعي الشهير وكذا مع الدكتور محمود صدقي والشيخ / احمد علي المليجي والشيخ / محمد علي المليجي وغيرهم من كبار المباحثين في الديانة المسيحية . ومع كون أجوبته كانت مسكته وبراهينه كانت مفحمة فقد كانت أيضاً مطفئة للنيران التي كانت تتأجج في صدور مباحثيه وذلك لأنه كان يصوغها في قالب كله محبة ولطف ودعة واحترام لمن يناظره فاكتسب محبة أكثرهم وامتلك قلوبهم وحاز اعجابهم العظيم ، فكان مئات منهم يحضرون محاضراته وهم مدفوعون بمحبتهم لشخصه وتقديرهم لمعرفته العلمية وشدة عارضته وسرعة خاطره .
أما لغته في القاء محاضراته فكانت سامية عذبه جذابة تتخللها الاقوال المأثورة من الامثال الحكميَّة والفلسفة المنطقية فعند سماعك لها تسمع فصولا رائقة ومختارات شائقة ومع ذلك فكانت واضحة مفهومة تدخل إلي الاذهان بوصولها إلي الآذان وتتدفق معانيها في ظهور مبانيها وبالجملة فكانت محاضراته روضة غناء حوت أجمل أزهار الادب وأينع ثمار العلم والفضل .
وكانت هذه المحاضرات الجدلية تدور حول هذه المواضيع وأمثالها .
اثبات صحة الكتاب المقدس ـ اثبات لاهوت المسيح ـ التجسد ـ الثالوث ـ الخلاص ـ حكمة الفداء الخ .
نعم كان في بدء عمله يتعرض لمواضيع مثيرة للخواطر وكانت هذه المواضيع داعية إلي الإضطراب في بعض الليالي حتي لقد تدخلت الحكومة عدة مرات بقوات الجنود لارجاع النظام واستتاب الأمن ولكنه بعد قليل أعترف بأن المواضيع السلبية المذكورة لا جدوي من ورائها في ميدان ربح النفوس . وذلك في مقال نشرته له مجلة بشائر السلام إذ قال ما معناه : وجدت إن النقد ومس كرامة الكتب والاشخاص تضر أكثر مما تفيد فعدلت عنها إلي المواضيع الإيجابية التي تقرر حق المسيح والمسيحية فرأيت بعد الأختبار أن الربح مضمون واننا لا نستطيع أن نربح نفوسنا للمسيح إلا بطرق المحبة واللطف والتضحية . الأمور التي استعملها المسيح وربح نفوس المفديين بواسطتها .
هذا من جهة مواضيعه الجدلية البحثية أما من جهة مواضيعه الروحية التي كان يلقيها للوعظ والتعليم فكان لها تأثيرها الفعال ونتائجها العظمي . تثير العواطف وتسيل المدامع وتحكم النفوس فتقربها من الملكوت بل تجذبها لمخلصها العظيم . ومما يدلنا علي شدة تأثير مواعظه إنك تري مئات من الذين كانوا يسمعونه يحفظون له مواعظ باغلب اجزائها . وأن صدي هذه المواعظ لا يزال يتردد في كثير من كنائس القطر المصري . فهو وإن مات لم يزل يتكلم . ومما يروق في مواعظه الروحية أن جميع أجزائها مبنية علي أساس كلمة الله وذلك أمر طبيعي لأنه لعدم معرفته اللغة الإنكليزية الموضوع بها كتب التفاسير لم تكن له إلا الكتاب المقدس .
وإنا نورد هنا جزءاً من كلامه في رسالة كعينة لمواعظه الآنفة الوصف:
قال :
“إخواني . قد كلمتكم عن قيمة نفوسكم الخالدة فبادروا إلي فكها من فخاخ الخطية واشراك الجهالة وقيود العبودية وأرجو أن يأتي يوم تقبلون فيه علي المسيح أفواجاً وحينئذ يتمجد فيكم إسمه والأرض تهتف لكم وملائكة السموات تفرح بكم . فتعالوا للمعين من قبل الآب لرفع خطية العالم تعالوا إليه تجدوه براً وقداسة وحكمة ونور إعلان للامم ومجداً لشعبه اسرائيل ـ تعالوا إليه لتخلصوا وتسعدوا حالاً ومآلا ـ تعالوا إليه تجدوه شمس البر والشفاء في اجنحتها ـ تعالوا إليه لأنه يشبع نفوسكم من نعمته لأن أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلي الأبد . والله قادر أن يملأ جميع احتياجاتكم حسب غناه في يسوع المسيح “
وكذلك صلواته كانت عليها مسحة إنجيلية مثل قوله:
يا من تريد أن جميع الناس يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون تجل علي نفوس المسلمين وأكشف لهم أسرارك وأعلن لعيونهم أنوارك وقيض لهم غيورين علي حقك ومحبين لاسمك يبذلون كل شيء لأجل الانجيل حتي نفوسهم وهم فرحون لأجل أسم الرب يسوع آمين .
وكان العمل في حقل الفادي يستغرق كل وقته فكان أينما حل أو ارتحل شاهداً حياً للمسيح . كان في أول الأمر يدير مجتمعين للمسلمين في الأسبوع أحدهما ” بالازبكية ” والثاني ” بالقللي ” ثم أدار ثالثاً ” بالخرنفش ” وصفاً لمدرسة الأحد غير المقابلات الشخصية وبعض الزيارات والكتابات في الجرائد والمجلات وكان يلبي كل دعوة من الكنائس في الوجه البحري والوجه القبلي وكان يكتب بعض النبذ وينسق بعض الكتب ويعطي بعض الدروس الإسلامية في صف اللاهوت ومدرسة المبشرين وغير ذلك مما يدل علي أنه كان مكرساً حياته لمن بذل نفسه عنه .
ومما هو حري بالذكر في هذا الموضع أن تبشيره للمسلمين كان بوازع نفساني ومحبة خالصة لربح النفوس بل كان قلبه ملتهباً إلتهاباً حقيقياً غيرة علي نشر الانجيل بين قومه وجيله مع ما فيه من الصعوبات الكثيرة بالنسبة لحداثة العمل في مصر .
وإن نسيتْ ذاكرتي أموراً كثيرة فلم أنس ولن أنسي الفرح العظيم الذي ملأ قلبه والبشر الجليل الذي تلألأ به محياه ثم الدموع التي بللت ملابسه من شدة سروره عندما طلبت منه الانجيل أول مرة . وقال لي منذ شهور طويلة أطلب من الله بدموع لأجلك حتي تطلب الإنجيل فترى فيه خلاص نفسك . والحق يقال انى كنت فى أول الأمر خجلاً به رازحاً مع سائر أفراد العائلة تحت ثقل عار تنصره وكنت طوراً أطلب من المشائخ بعض الدعوات لله من أجله ليرجع وتارة كنت أبحث عن المشهورين بالعلم والذكاء لآخذهم إليه حتي يرجعوه . وأحياناً كنت ألجأ إلي بعض الاشرار ليهددوه ولكني لما وجدته ثابتاً كالطود الشامخ في المسيح يسوع مستعذباً في حبه له كل عذاب فكرت طويلاً ” و أنا أدرى الناس به ” فى لماذا تنصر ؟
إني علي يقين تام بأنه لم تكن له غاية عالمية ، فقد بدا لعيني واضحاً إخلاصه في المسيحية فوجدت نفسي بعد هذا التفكير مدفوعاً لطلب الإنجيل منه فقابلني هذه المقابلة البهجة .
وهكذا ظل نحو ربع قرن يعمل باخلاص وهمة وشجاعة وفرح في حقل مولاه فكان قدوة لكثيرين منا في العمل بلا خوف وسن لنا طريقا إلي طاعة المسيح بخدمة ابناء وطننا المحبوبين ودعوتهم إلي خلاص الرب يسوع المسيح الذي هو الطريق والحق والحياة، ونشكر الله لأنه كان أيضاً سبباً في هداية كثيرين من الخطاة الذين أولهم أنا إلي مجد الفادي .
مرضــه وموتــه
مرض بالزلال مدة من الزمن وهو غير دار بذلك إذ كانت قوة بنيته الجسمية متغلبة علي ظهور عوارض المرض وفجأة كثرت الكمية الزلالية حتي تسمم بها الجسم وصحب ذلك وقوف الكلي عن إفراز البول فإشتدت وطأة التسمم الزلالي فعز الشفاء ولم ينجح فيه دواء مع شدة العناية بمعالجته وكثرة الاطباء .
وإذا المنية أنشبت أظفارها الفيت كل تمية لا تنفع
ولقد أبدى وهو علي فراش المرض ما يملأ أفئدتنا تعزية من شدة تمسكه بالمسيح واتكاله علي غزير فضله وفائق نعمته . ظل يومين كاملين يكرر هذا القول ” بالنعمة أنتم مخلصون ” وفي كل مرة يعقبها بقوله “أشكره لأنه خلصني بالنعمة “
وقد سألته مرة ماذا تحب أن أقرأ لك من الكتاب فقال لي : المزمور الذي فيه ” أنقذ من الحفرة حياتك ” ودخل عليه المرحوم / القس شنودة حنا وقال له هل أنت خائف أن تموت ياشيخ ميخائيل فأجاب بسرور وبهجة “كيف اخاف وعين يسوع تسندني ” . ثم كرر بعد ذلك ثلاث مرات ” لاخوف فقد سبقني إلي القبر وأزال مخاوفه ” .
ومما يفرح ويدل علي تسليمه التام لإرادته أنه رأي إحدي قريبات زوجته متأهبة للخروج من البيت فقال لها إلي أين ذاهبة فقالت إلي الكنيسة لأصلي فقال وماذا تقولين في صلاتك؟ فقالت أقول يارب إشف الخواجا ميخائيل فقال لا ” فربما كان طلبك هذا ليس منطبقاً علي إرادته قولي يارب تمم إرادتك في ميخائيل ثم وجه نظره إليَّ وقال أفهمت؟ “
وغير ذلك كثير من الأقوال الكتابية والحكم المنشورة والمنظومة التي تدل أن فكره كان محصوراً في الإلهيات وقلبه موجهاً إلي المسيح نسأل الله أن يميتنا في المسيح ويمتعنا بسلامه في ساعة الموت فنرقد فيه علي رجاء قيامة الأموات .
وما أزفت ساعة موته وهي الساعة الخامسة من مساء الأربعاء الموافق 29 مايو سنة 1918 حتي انتشر الخبر في كل أنحاء المدينة وظللت تلك الليلة في أخذ و رد مع زوجته اختلافاً علي كيفية دفنه فقد كانت مع أهلها متشبثة بإرادة دفنه في مقابر الكاثوليك وأصرت علي ذلك فلم نشأ أن يكبر الخلاف وتتسع دائرته بيننا في مثل هذا الظرف الصعب فاستشرت كبار المرسلية الذين كانوا حاضرين معي عندئذ وكذلك قادة الكنيسة الإنجيلية في اجابة طلب زوجته فوافقوا علي ذلك. وفي يوم الخميس احتفل به إحتفالاً عظيما مشي لتشييعه فيه مئات من المسيحيين علي آختلاف طوائفهم وكثيرون من المتنصرين والمسلمين وكلهم آس حزين متأسف علي شبابه النضر وقوته العظمي كيف ذبلت . وما هي إرادة الله في تعجيل موت عامل نافع عظيم في خدمته ؟ ولكن ” ما أبعد احكامه عن الفحص وطرقه عن الإستقصاء . ”
ولقد أمطرتني مصلحتا التلغراف والبريد بمئات من رسائل التعزية من جميع أنحاء القطر المصري . ومما يسر أن بينها كثيراً من مسلمين أجلاء وفضلاء .
أخي الحبيب:
قد كتبت وقتئذ هذه الكلمة الصغيرة مقدمة لفذلكة تاريخية اللهم تعزيه . اللهم صبراً . إنه لينحبس لساني وينفطر جناني من هول الخطب والفاجعة المريعة التي ثلت عرش الفضل ودكت طود النبل ومزقت فؤاد البلاغة وشقت مرارة البراعة واليراعة .
أبكيك ! لأنك كنت الباب الأول الذي دخلت منه إلي الفادي والدرجة الأولي من السلم الذي صعدت عليه إلي سماء خلاصي . وأول زهرة شممت فيها رائحة المسيح الزكية بل الصحيفة الاولي التي قرأت فيها رسالته.
أجل فقد كنت الشهادة الحية لفاديك، والحجة الدامغة أمام قومكجاهدت الجهاد الحسن في حقل مولاك بقوة نادرة وجراءة فائقة تجري من بطنك أنهار ماء حي وتدافع عن الحق بغيرة يشتعل أوارها ومحبة لا يطفأ لهيبها واخلاص تصحبه نعمة روحه القدوس .ولولا رجاء في الله ويقين في محبته وثقة بمواعيده الصادقة واتكال علي نعمته الكافية لقضى علينا اليأس وعز العزاء .
حقاً لقد تبكي القوافي محكمها والرسائل منسقها والمشاكل حلالاً لعقدها والمسائل كشافا لغامضها والمجالس زينتها والمحافل جوهرتها . تبكيك ياشقيقي الاقلام والمحابر والمواعظ والمنابر . تبكيك المحاضرات والخطب . تبكيك المجلدات والكتب . يبكيك النثر والنظم . يبكيك الذكاء والفهم . تبكيك الشجاعة الادبية . تبكيك الصراحة والحرية . تبكيك مكارم الاخلاق السامية والآداب العالية . أبكيك ياشقيقي لانك تركتني بلا شقيق في الناس . بل بلا أهل فقد كنت كل أهلي
فحسبي شجوا أن أرى الدار بلقعاً خرابا واشلاء الحبيب تراباً
الشيخ / كامل محمد منصور
المتنصر بأسم / كامل منصور
الشيخ الأزهري ميخائيل منصور
المـــــــــــــــــزيد:
فك طَلسم الأحرف المُقطعة بالقرآن وسر الكتاب المكنون !!
القديس المُتنصر.. المُعز لدين الله بن منصور الخليفة الفَاطمي
بالصوت والصورة.. معمودية السعودي “بندر العتيبي” في بريطانيا بعد تحوله للمسيحية