سؤالك له جواب

كيف حزن الرب وتأسف في قلبه؟

كيف حزن الرب وتأسف في قلبه؟

 

القس/ عزت شاكر

 

يقول الكتاب فى (سفر التكوين 6 : 5 – 7) :

٥ وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. ٦فَحَزِنَ الرَّبُّأَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. ٧ فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ»“.


   
هذه الكلمات تجد هجومًا شديدًا من عدد كبير من النقاد، وأنا هنا أقتبس بعض مما قيل من هجوم على هذه الآيات:
   
يقول دكتور مصطفى محمود: “نرى الله يفعل الفعل ثم يندم عليه، وكأنه لا يدرى من أمر نفسه شيئًا، ولا يعرف ماذا يخبئه الغيب؟
   
ويضيف د. مصطفى: “رب عجيب .. ما يلبث أن يندم على ما يفعل.. الرب في حالة خطأ وندم بطول التوراة وعرضها… كيف يخطىء الرب ويندم؟ هوذا خلط ودشت من الكلام تكتبه أقلام وليس وحيًا ولا تزيلاً.

فهنا تواجهنا عدة أسئلة وهى:
ما معنى حزن الله وتأسف في قلبه؟

هل يحزن الله؟

أليس الحزن ضعفًا؟

وهل يجوز إطلاق صفات بشرية على الله؟


وللإجابة على هذه الأسئلة أقول:
    أولاً: استخدام التعبيرات البشرية عن الله:
    الكتاب المقدس هو رسالة الله للبشري، ولذلك هو لا يخاطبنا بلغته، ولا بلغة الملائكة بل بلغتنا واصطلاحاتنا لندرك حقائق الأمور.

لذلك نجد الروح القدس يستخدم اللغة البشرية للتعبير عن المعانى الروحية والأحداث الإلهية حتى يفهمها الإنسان، وإلا لكان الله يكلم الإنسان بلغة لا يفهمها، فكيف يتعامل الله مع الإنسان بغير لغة الإنسان؟ واستخدام الصفات البشرية في وصف الله تعرف في علم اللاهوت بمنهج ” أنثروبومورفيزم” (Anthropomorphism) أى (تشبيه الله بالإنسان) أو تشبيه الله بصفات بشرية بهدف وصول المعانى اللإلهية للإنسان بلغة قريبة إلى فهم الإنسان.


    ولهذا السبب نجد نصوصًا كثيرة في الكتاب المقدس، ينسب الله فيها إلى ذاته تشبيهات مألوفة لدى الإنسان مثل: “كرسى الله”، “يد الله”، “عين الله”، “أقسم الرب”، “ذراع الرب”، “فم الرب”، “حزن الله”، “ندم الله”. إلخ كما لو كان الله إنسانًا.


    إنه من فضل نعمته يتكلم معنا مثلما يتكلم الأب مع ابنه الصغير، أو الأم مع طفلها الرضيع، فعندما تسأله إن كان يريد ماء ليشرب، تقول له “امبو”، وإذا أرادت أن تعرف إن كان جائعًا، ويريد أن يأكل، تقول له “مم”، لكى تتواصل معه أى بـــ
Baby Talk.


    وعندما نفند التعبيرات التى أطلقها الوحى على شخص الله، سنجد أنها مجرد تعبيرات بشرية لتبسيط الحق الإلهى لنا، فمثلاً عندما نفكر في تعبير “كرسى الله” بالطبع الله لا يجلس على كرسى، ولا يوجد كرسى يسع الله، فهل الله محدود لدرجة أنه يجلس على كرسى؟! وأين هذا الكرسى؟! ألم يقل عن نفسه: “أما أملأ أنا السماوات والأرض، يقول الرب؟” (سفر إرمياء 23: 24) .

(انظر 1مل8: 27، أع7: 48- 49) .
    ولكن الوحى عندما أراد أن يعبر عن سيادة وسلطان الله استخدم هذا التعبير.
    وتشبيه الله بصفات بشرية بهدف وصول المعانى الإلهية للإنسان ليس قاصرًا على الكتاب المقدس فقط بل نجده في القرآن أيضًا فينسب إلى الله قوله فى (سورة يس36 : 30) :

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ “.

و”الحسرة” أصعب من الحزن والندم؟!
   

ومكتوب عن الله أيضًا في القرآن فى (سورة آل عمران3: 54) :

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ” ،

و”المكر” صفة بشرية بغيضة.


    وينسب إلى الله قوله أيضًا فى (سورة الأعراف7: 183) :

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ” ،

و”الكيد” أيضًا صفة بشرية سيئة!


    وقال الإمام فخر الدين الرازى:

“جميع الأعراض النفسانية، أعنى الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء، لها أوائل ولها غايات، مثاله الغضب، فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرب إلى المغضوب (عليه)، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أدلة الذى هو غليان دم القلب، بل على غرضه وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس”.


    وقال الشيخ محيى الدين ابن العربى في الباب الثالث من الفتوحات: “جميع ما وصف الحق تعالى به نفسه من خلق وإحياء وإماتة ومنع ومكر واستهزاء وكيد وفرح وغضب ورضا وضحك وتبشيش وقدم ويد ويدين وأيد وعين وأعين، وغير ذلك كله نعت صحيح لربنا، ولكن على حد ما تقبله ذاته، وما يليق بجلاله”.

    ثانيًا: ما معنى حزن الله وتأسف في قلبه؟
    1-   بكل تأكيد الله منزه عن الحزن والأسى والندم بالمفهوم البشرى، لأن كل شىء عريان ومكشوف أمامه، فليس عنده ما نطلق عليه أنه غير متوقع، بل كل شىء معروف ومعلن لديه، ولأنه فوق الزمن، فلا يوجد عنده ماض وحاضر ومستقبل، فكل التاريخ حاضر أمامه. وهو القوى القادر على كل شىء، وضابط كل شىء، فعلام يحزن أو يندم بالمعنى البشرى؟!

إن الله “ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع1: 17. (انظر ملا3: 6، إش46: 9- 10، عد23: 19) .


    2-   عندما يقول الوحى الإلهى عن الله إنه يحب ويكره ويفرح ويحزن ويتحسر ويندم… إلخ، فهو لا يقصد أن الله له حواس مثل حواسنا، إنما يريد أن يبين ويؤكد على مدى تفاعل الله مع البشر. وأن يبين أن له مواقف إزاء ما يفعله البشر. وليس هذا معناه أن الله قد يتغير في ذاته، إنما الذى يتغير هو الإنسان، وبالتالى يتغير حكم الله عليه، لأن الله عادل، والعدل الإلهى يقتضى أن يجازى البشر على حسب أفعالهم.


    3-   عندما يقول الوحى الإلهى عن الله: “فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه”. فهى صياغة إنسانية بشرية بإرشاد الروح القدس حتى يدركها الإنسان، ويفهمها بعقله المحدود، ويعبر بها الله للإنسان عن حجم الكارثة. فهى كلمات تعبر من ناحية عن عمق الشر الكامن في الإنسان، ومدى فساده وابتعاده وزيغانه، ورفضه للتوبة والرجوع إلى الله خالقه، بل وأصل ومصدر حياته، ورغبته في السير وراء إبليس وإغراءاته، وشهوات قلبه.


    وهى كلمات تعبر من ناحية أخرى عن عمق محبة الله المتألمة النازفة. فبعد أن سر الله بخلق الإنسان، وقال عنه إنه “حسن جدًا” (سفر التكوين 1: 31).

فإذا بهذا الإنسان موضع سرور الله قد هوى في بئر الخطية والشر. فكأن الله يقول: أ ليس هذا هو الإنسان الذى خلقته على صورتى، وأحطته بمحبتى، ومنحته كل المواهب والإمكانيات التى تجعله يعمل ما يسرنى، فلماذا أهاننى بأفعاله الأثيمة، وجرحنى بزيغانه بعيدًا عنى، وعناد قلبه ورفضه للتوبة، والاستجابة لعمل روحى في داخله؟!


إنه باختصار تعبير بشرى يبين مدى نفور الله من الشر والخطية من جانب، ومدى محبة وشفقة الله على الإنسان الذى سقط وحل به العقاب الإلهى من جانب آخر.

Aisha Ahmad

رئيس تحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى